اسطنبول نقطة العناق والفراق بين أوروبا وآسيا
إنها اسطنبول… مدينة الجمال الساحر، ونقطة التقاء أوروبا بآسيا، وهي مدينة الحياة التي لا تهدأ على مدار السنة، فلكل فصل من فصولها رونقٌ خاص وجانب مميز.
توجهنا إلى هذه المدينة العريقة، لنستكشف ربيعها، ونمتع ناظرينا بجمالها، ونتفقّد معالمها، ولتنبض حياتها في قلوبنا على مدى ثلاثة أيام. تزامنت زيارتنا مع بدء مهرجان التوليب السنوي في فصل الربيع، والذي يسمح للمدينة باستعراض أزهار التوليب الزاهية بألوانها المختلفة في حدائقها وطرقاتها، لتزدان بأبهى حلة فتصبح اسطنبول أشبه بحديقة كبيرة.
عروس البوسفور… هكذا يحلو للكثيرين تسميتها، فهذا المضيق يعطي اسطنبول الكثير من عظمتها التاريخية والجغرافية في شطريها الآسيوي والأوروبي. أخذتنا العروس إلى عالمها حيث في كل ركن من أركانها حكاية وفي كل زاوية اكتشاف: فهنا تاريخ وحضارة، وهناك طبيعة خلابة، وهنالك ترفيه ومذاقات، والكثير الكثير مما لم نكتشفه بعد.
اليوم الأول في تركيا:
بدأت رحلتنا من دبي فجراً على متن الخطوط الجوية التركية، درجة رجال الأعمال، وكان كل شيء في الطائرة التركية مميزاً، فسمعة الطيران التركي لا تقل عظمة عن سمعة تركيا في السياحة والتاريخ والثقافة. استرحنا على المقاعد المريحة والتي تتحول إلى فراش وثير بكبسة زر. بدأت بمشاهدة فيلم وغرقت في راحة السرير حتى لحظة الوصول، حتى نسيت أنني في السماء أصلاً.
توجهنا إلى فندق كونراد اسطنبول البوسفور، حيث استلمنا غرفنا المريحة، وكانت المفاجأة السارة في الإطلالة الرائعة على مياه البوسفور فتسمرت على النافذة الواسعة لبعض الوقت أتأمل وأفكر في هذا المكان حيث تنفصل أوروبا عن آسيا، وفي نفس الوقت تلتقيان!
استرحت قليلاً على سريري المريح إلا أن الجوع وعشق الطعام التركي بدآ بدغدغة حاسة الذوق لدي، وهذا ما حصل مع زملائي أيضاً فاجتمعنا وسرنا باتجاه سوق بيشكتاش القريب من الفندق. كان دخول الشارع الحيوي رحلة سياحية بحد ذاتها، فهو يعج بالحياة والمارة والمحال التجارية والمطاعم بالإضافة إلى سوق السمك والخضار.
جذبتنا رؤية المتاجر إلى التسوق، إلا أن الجوع كان قد قال كلمته أولاً، فتوجهنا إلى مطعم INTIBAالواقع وسط الشارع. طلبنا ما لذ وطاب من المأكولات التركية بدءاً بالشاورما، ووصولاً إلى الكفتة، وطبق اسكندر كباب الذي كان ألذ الخيارات، وهو عبارة عن شرائح من لحم الشاورما مع صلصة الطماطم والتي تقدم على رغيف خبز مقلي مع اللبن. جاء دور الحلويات التي لا يمكن مقاومتها أبداً في تركيا، فطلبنا الكنافة والأرز بالحليب وكمال باشا لنتشاركها. وكان لا بد من اختتام الجلسة بفنجان من الشاي التركي على الأصول.
بعدها حان وقت التسوق، فمن يزور تركيا لا بد أن يعود محملاً ببعض الملابس الجديدة، فالأسعار هنا مناسبة والخيارات كثيرة. وبعد جولة السوق، كان لا بدّ لنا من أن نمتع ناظرينا بمياه البوسفور.
وقيل لنا أن منطقة أورتاكوي قريبة جداً، لذلك، وعلى الرغم من بعض البرد إلا أن الشمس والأجواء الحيوية وحب الاستكشاف دفعتنا للسير على أقدامنا باتجاهها.
ما أن وصلنا حتى ظهر أمامنا البوسفور بمياهه الزرقاء فيما كان جامع أورتاكوي والذي يعود بناؤه إلى العام 1853 قابع على البحر مباشرةً. تستقطب هذه المنطقة سياح اسطنبول فموقعها على البحر وعلى مقربة من القصور والمعالم التاريخية تعطيها طابع مميزاً، فيما ترتصف المقاهي على جنب الطريق وفي الأزقة، فاخترنا أحد المقاهي المطلة على البحر مباشرةً، حيث يسكت الكلام وتأتي الراحة مقبلة دون دعوة.
أمضينا وقتنا هنا حتى المساء، حيث قمنا بجولة الوداع لأورتاكوي في أسواقه ومحلاته الصغيرة المتلاصقة والتي تعرض كافة أنواع التذكارات والهدايا والحلويات وغيرها الكثير، أما أكشاك المطاعم فحدث ولا حرج، ولعل أكثرها جذب كانت أكشاك البطاطا المحشية بشتى أنواع الخضار والأجبان والتوابل فتناولنا عشاءنا هنا قبل العودة للفندق.
اليوم الثاني في تركيا:
استيقظت على المشهد الرائع للبوسفور، فتحمست أكثر للانطاق بيومي الثاني. تناولت الفطور الشهي في الفندق سريعاً والتقيت بزملائي لننطلق في رحلة طويلة برفقة شركة أدونيس للسياحة.
كانت محطتنا الأولى في حديقة أميرجان كوروسو Emirgan Korusu ، إحدى أكبر حدائق اسطنبول، والتي تتمتع بمناظر خلابة تمتّع العين والروح وتريح الوجدان. وبما أن زيارتنا أتت في مهرجان التوليب الذي تحيا فيه الحدائق، كان لا بد لنا من جولة في مختلف أرجاء الحديقة لنستمتع بالألوان الزاهية لهذه الزهرة الجميلة. كان واضح خلال جولتنا شعبية هذا المكان بين سكان اسطنبول، فقد صادفنا خلال جولتنا العديد من العرسان الذين أتوا لالتقاط الصور التذكارية ليبدأوا عهداً جديداً وسط الطبيعة البديعة. إلا أن ذلك ليس أمراً مستغرباً فالحديقة واحة من الجمال، وتتضمن 120 نوع من النباتات تتصدرها زهرة التوليب، وأشجار الصنوبر.
حان موعد الغداء، فذهبنا إلى فندق الريتز-كارلتون اسطنبول والذي يتميز بفخامته المطلقة وإطلالته الخلابة على البوسفور قبل أن نكمل مسيرتنا، فقد حان موعد الجولة التالية.
والتي كنت أنتظرها بفارغ الصبر! إن جولة المركب في البوسفور لا تُفوَت، فمن على متن المركب الضخم جلست أراقب البحر واسطنبول بكل روعتها من ورائه. مرَ بنا المركب بأجمل معالم المدينة بدءاً من جسر البوسفور الشهير، ومروراً بأجمل المساجد، والقصور والفلل والتي سبق أن رأينا الكثير منها في المسلسات التركية الشهيرة، حتى أننا مررنا بالقرب من القصر الذي صُوّر فيه مسلسل نور ومهند. رافقتنا طيور النورس طوال الرحلة محلقةً في الأجواء، فحلّقنا معها في عالم الخيال والجمال. إلا أن يومنا الطويل لم ينتهِ هنا، فللطبيعة حصة كبيرة في رحلتنا، لذلك انطلقنا إلى تلة العرائس Camlica Hill ، والتي تقع في الجزء الآسيوي من اسطنبول. تنتشر الحدائق الغناء على هذه التلة فتجد الأصدقاء والعائات يفترشون الأرض ليستمتعوا بجمالها، وبجمال اسطنبول كلها، فمن هنا الإطلالة خيالية، خاصة عند اقتراب المغيب. وتجدر الإشارة إلى أن إسم هذه التلة يعود لكون الكثير من زوارها من العشاق، ولكونها مثل حديقة أميرجان كوروسو تستقبل العرائس بفساتين الزفاف، لأخذ الصور التذكارية مع أزواجهم في أركانها. استراحة قصيرة وفنجان من القهوة التركية ونسمة عليلة برائحة الصنوبر كانت كفيلة بأن تُعيد لنا نشاطنا وتفتح شهيتنا فسارعنا إلى وجهتنا الأخيرة لهذا اليوم.
كان مطعم شازلي Sazeli هو المقصد، فبعد كل هذه الصولات والجولات كان لا بد من عشاء فاخر يعيد الطاقة والراحة إلى الجسم. يقع المطعم بالقرب من مطار أتاتورك في اسطنبول، وعلى الرغم من أن المشوار كان طويلاً وأن زحمة اسطنبول الخانقة داهمتنا في الطريق إلا أن التجربة التي حظينا بها في المطعم كانت كفيلة بأن تُنسينا كل شيء! يقدم المطعم أجود أنواع اللحوم والستيك والريش، على أنواعها، فمنذ اللحظة التي دخلنا فيها المكان دغدغتنا رائحة المشاوي التي تُطهى أمام الضيوف، أما التجربة فكانت على قدر التوقعات! وليحتفي بمذاقاته الشهية، يقوم فريق العمل ببعض الاستعراضات عند تقديم كل طبق. أمضينا أمسية جميلة اختتمنا فيها يومنا الطويل بمذاقات تركيا المبهرة دائماً .
اليوم الثالث في تركيا:
إنه اليوم الأخير من رحلتنا، لذا علينا زيارة أهم معالم اسطنبول التي يسجلها التاريخ فرض على من يزورها. كانت البداية مع شارع السلطان أحمد، الذي يحتضن أبرز معالم اسطنبول التاريخية كالجامع الأزرق، وقصر توب كابي، ومتحف آيا صوفيا، وغيرها الكثير ليكون بذلك متحف مفتوح ينبض بالتاريخ والحضارة، فيما ترتصف المقاهي والمطاعم والأسواق على جنبات الشارع لتجعل منه وجهة سياحية متكاملة.
بدأنا جولتنا في قصر توب كابي الذي تحول إلى متحف كبير يستعرض تاريخ وثقافة الإمبراطورية العثمانية التي استمرت على مدى عصور طويلة، فقد عاش في هذا القصر الكثير من الساطين مع حاشياتهم وحكموا الإمبراطورية منه. أما كلمة “توب كابي”، فتعني “الباب العالي”، إذ يُعتقد أنه للقصر 13 باب لم يبقَ منها إلا القليل، وقد سُمي القصر نسبة إلى باب خومايون وهو الباب الرئيسي والذي تم بناؤه في عهد السلطان محمد الفاتح.
بعد الانتظار في طابور طويل دخلنا القصر الشاسع والذي تبلغ مساحته 700ألف متر مربع، ومن الباب الرئيسي ووصلنا إلى باحة كبيرة, فيها حدائق وأشجار جميلة، منها يمكن الدخول عبر أبواب عدة كباب السلام وباب السعادة، للتجول في منصات مختلفة، بدءاً من إحدى غرف السلطان، ووصولاً إلى المطابخ، وغيرها من الغرف واالدواوين المصممة بأبهى التصاميم، والتي تحكي ألف قصة وقصة. ولعل أبرز غرف توب كابي هي تلك المسماة “غرفة الأمانات المقدسة”، فهي تحتوي على بعض من المقتنيات التي تُنسب إلى الأنبياء والرسل، كسيف النبي صلى اللّه عليه وسلم، وقوسه، وشعرات من لحيته، وبعض أغراضه الشخصية، بالأضافة إلى سيوف الخلفاء الراشدين، وعمامة يوسف عليه السلام، وعصا موسى عليه السلامم، ورداء وصندوق فاطمة الزهراء رضي الله عنها وغيرها الكثير من الأمانات المقدسة. وبالإضافة إلى ذلك تتضمن الغرفة أيضاً أمانات خاصة بالكعبة الشريفة كالمفاتيح والأقفال، وغيرها. ولا تقتصر الجولة في القصر على التعرف على التاريخ والتصاميم بل يمتاز القصر أيضاً بإطلالة تخطف الأنفاس على خليج البوسفور وبحرمرمرة وبوغاز ايجي في آن واحد.
قد لا تكفي صفحات لوصف هذا المعلم الرائع ولا ساعات للتجول فيه، إلا أن غنى اسطنبول حثنا على التوجه إلى وجهتنا الثانية وهي متحف آيا صوفيا. وعلى الرغم من أنني زرته في السابق إلا أن جدرانه القرمزية المائلة للون الوردي وذكرياتي القديمة عند زيارتي اسطنبول للمرة الأولى أثارت حماستي للدخول إليه مجدداً. أُنشأت آيا صوفيا بدايةً ككنيسة وقد تهدمت وتعرضت للحرائق أكثر من مرة، ومن ثم تحولت إلى مسجد ومن بعدها إلى متحف. ولا يزال متحف آيا صوفيا يحمل على جدرانه الأيقونات والرموز الكنسية جنب إلى جنب مع الرموز الإسلامية. لا تشبع العين من التأمل في الزخرفات والنقوش والفسيفساء والتصاميم المهيبة في هذا الصرح التاريخي الرائع، لذلك نرى فيه السائحين والزوار يتهاتفتون من كافة أقطاب الأرض لاستكشافه.
غادرنا ولم يتبقّ من الوقت إلا القليل في يومنا الأخير، لكن لم يكن من الممكن أن نغادر اسطنبول من دون زيارة شارع الاستقلال في منطقة تقسيم الشهيرة. فهذا الشارع هو الشريان النابض لمدينة اسطنبول، وهو معقل التسوق حيث الحياة والحيوية والحركة لا تنضب ولا تهدأ. توقفت وتناولت الغداء في أحد المطاعم فكان لا بد من توديع الشاورما التركية التي سأشتاق لها حتماً ورحت أسير في الشارع حيث تتناثر المطاعم والمقاهي والمتاجر. في كل زقاق ضيق مررت به اكتشفت روح جديدة وحياةً جديدة. وبين الحين والآخر صادفت أطفالاً أو شيوخاً أو شباناً يتخذون ركن لهم ويعزفون ويغنون بالتركية حين وبالعربية حين آخر. كان من الصعب مقاومة عربات الكستناء والسميت والذرة المشوية فاشترينا وتشاركنا النكهات الشهية.
وبعد جولة طويلة في السوق استرحنا في أحد مقاهي ميدان تقسيم الشهير نشرب الشاي ونتناول الحلويات التركية عند ميدان تقسيم الشهير لنودع فيه هذه المدينة التي لا تتوقف عن الغليان بروحها المرحة والإجابية.
لا شك في أن اسطنبول مدينة الحياة والتاريخ والحاضر والمستقبل وأن لكل ركن فيها ميزة وهوية، فلتستكشقها أنت بحاجة لعمر أو عمرين أو ربما أكثر، لذلك لم يكن وداعنا لعروس البوسفور إلا وعداً بلقاء جديد … أو لقاءات جديدة. وداع اسطنبول دائم قاسي، إلا أن ما خفف من وطأته بالنسبة لي كانت لحظاتي الأخيرة التي أمضيتها في ضيافة صالة رجال الأعمال التابعة للخطوط الجوية التركية في مطار أتاتورك باسطنبول. ذُهلت لحظة دخولي الصالة الضخمة والتي تمتد على طابقين واسعين، وتتضمن جلسات مريحة على الأرائك ومحطات طعام عديدة. سُررت لأنه سيتسنى لي أن أودّع الكباب التركي مرّة أخرى حيث يتم شيّه مباشرةً في الصالة، إلى جانب أنواع متعددة من المأكولات الشهية. أكملت استراحتي الطويلة على سريري المريح في الطائرة، ولم أستيقظ إلا عندما وصلت إلى دبي.
ميزانية الرحلة في تركيا:
- تذكرة الخطوط الجوية التركية درجة رجال الأعمال 10300 درهم
- التنقل من وإلى المطار 275 درهم
- الإقامة في فندق كونراد اسطنبول 700 درهم
- الجولة في البوسفور 12 درهم
- دخول قصر توب كابي 40 درهم
- دخول آيا صوفيا 40 درهم
- معدل أسعار التنقلات 200 درهم
- معدل وجبات الغداء والعشاء 350 درهم
- إجمالي سعر الرحلة التقريبي 11917 درهم
قد يعجبك:
تقرأون