أمستردام مدينة السعادة والفن والمذاق
وصلنا إلى مطار سخيبول، ووقفنا في طابور الجوازات، وصلت أخيراً إلى الموظفة التي ذكرتني ابتسامتها الودودة بما سمعته عن لطف الشعب الهولندي، ومحى لطفها وهي تطبع ختم الدخول على جواز سفري عناء الطابور الطويل.
من جهاز آلي في المطار، اشترينا تذاكر القطار إلى وسط أمستردام. وانطلقنا في رحلة جديدة استغرقت حوالي الربع ساعة إلى المحطة المركزية.
ما أن خرجنا من المحطة التي تقع فعلاً في قلب أمستردام، حتى رأينا جمال المباني التاريخية العائدة إلى القرن السابع عشر التي تحيط بها، والتي تطل على القنوات المائية، مصدر شهرة المدينة.
إنها أجمل بكثير مما شاهدت في الصور! وحقاً عجزت كاميرتي عن التقاط درجات ألوان المباني والأفق وصفحة الماء بمثل ما شاهدت عيناي.
كنا قد اقتنينا تذكرة أمستردام السياحية من المطار، والتي تخولنا استخدام الترام وباقي وسائل المواصلات العامة بالقدر الذي نشاء لمدة 72 ساعة. لذا استقلينا الترام واتجهنا إلى فندقنا.
وصلنا إلى محطة منطقة المتاحف (ميوزيوم بلاين) في خمس دقائق. تقع المحطة مباشرةً أمام مدخل فندق كونزرفاتوريوم، حيث أقمنا خلال زيارتنا للمدينة.
يصعب التفريق بين واجهة الفندق والمباني التاريخية المحيطة به. كان هذا الفندق قبل أكثر من قرنٍ مصرفاً مركزياً، ولا تزال جدرانه الداخلية تحتفظ بالسيراميك الذي يحمل شعار دروع محافظات هولندا التاريخية، حين جلس موظفو المكاتب التمثيلية لكل محافظة في القسم الذي تحمل جدرانه شعار المحافظة التي ينتمون إليها.
تحول المبنى إلى مدرسةٍ للموسيقى طوال عقود، حيث استفاد الموسيقيون من تصميم المبنى وقاعاته ذات السقوف المرتفعة. تقع ردهة الفندق الحالي البالغ من العمر خمس سنواتٍ في الساحة الرئيسية من مدرسة الموسيقى، وقد كانت هذه الساحة حينها تستخدم كمسرح لعروض السيمفونيات والأوبرا.
شكلت الردهة مقدمةً لما شاهدناه بعد تسجيل وصولنا إلى الفندق. صممها المهندس المعماري للفندق بحيث استبقى الشكل التاريخي بالكامل. وأضاف إليه دون تغييرٍ لمسةً عصريةً من خلال السقف والجدران الزجاجية التي تحيط بالساحة لتستفيد من ضوء النهار بغض النظر عن الموسم ودرجة الحرارة الخارجية. تندمج هذه الجدران الزجاجية بجدران الواجهة التاريخية الأصلية في إبداعٍ معماريٍ فريد.
مررنا بشارع التسوق في الفندق وصولاً إلى المصعد. يضم الشارع الذي يقع بالكامل ضمن جدران الفندق بعضاً من أرقى العلامات التجارية في مجال الساعات والمجوهرات والملابس، بالإضافة إلى معرض بنتلي.
احتفظت ممرات الفندق بطابعها التاريخي. لذلك شعرت بأنني مررت في آلةٍ للزمن لدى دخولي إلى الغرفة. كل ما فيها آلي وسلس ومصقول وعصري. تُفتح الستائر بلمسة زر لنرى من خلالها إحدى زوايا المبنى وأحد أبراجه. الأمر أشبه بالنظر إلى شاشةٍ تعرض مشهداً عريقاً.
اليوم الأول في هولندا:
بعد تناولنا لطعام الفطور، والتجول في المنطقة المحيطة بالفندق لنتعرّف عليها، عبرنا الشارع حيث محطة الترام التي وصلنا منها، نحو متحف الرسام العبقري فان غوخ. يقع المتحف قبالة الفندق وتحيط به مساحاتٌ خضراء افترشها الناس طمعاً في أشعة الشمس الدافئة.
يتجاوز هذا المتحف المعتاد من خلال اقتصاره على عرض اللوحات الفنية، ويسافر المتحف بزواره عبر حياة فان غوخ ومراحل حياته المختلفة. يستعرض المتحف لوحات كل فترةٍ من حياته فيما يشرح التغيرات في شخصيته وتأثير الفنانين الآخرين عليه.
تعكس الأعمال الفنية عبقريةً من حيث تقاسيم الوجه والإضاءة، حتى تبدو وكأنها صورٌ فوتوغرافية. وتنتهي القصة المبهرة نهايةً حزينةً مع جنونه ووفاته. البشر فانون، لكن أعمال العباقرة منهم خالدةٌ للأبد.
بدأ الجوع يتغلب علينا، فانتقلنا من الفن البصري إلى الفن المذاقي. قرأت قبل وصولي أن المطبخ الهولندي فقيرٌ بالخيارات، إلا أن هذا الفقر يعوضه التنوع المطبخي من أنحاء العالم، وجودة المكونات. يمكنني أن أزعم بثقةٍ أنني شاهدت مطاعم تمثل جميع بلدان العالم ذات الأهمية المطبخية.
جلسنا في مطعمٍ قريب تحمل لوحته علماً أفريقياً وكلمة حلال بالعربية، وتبين بالحديث مع النادل أنه مطعمٌ أثيوبي. تقاسمنا لديه شطيرتين بالحجم العشائري، إحداهما بلحم العجل على طريقة الشاورما، فيما تحمل الأخرى بين جنباتها قطعة كفتة طرية. الطبقان يشبهان الأكل العربي وإن تميزا بالبهارات الأفريقية، وقد كانا شهيان لحد الشبع.
واصلنا المشي الذي يوصي به الأطباء بعد الطعام، حتى وصلنا إلى ميدان دام سكوير، الذي يُعد أشهر وأقدم ميادين العاصمة الهولندية. الإسم، والذي يعني ميناء السدّ، يرمز إلى السدّ الذي بُني على نهر أمستل في القرن الثالث عشر. زاد عرض السد مع البناء والتطوير المستمرين حتى اتسع سطحه لميدانٍ عام، ويجتمع الناس في هذا الميدان منذ قرون -وما زالوا – للتجارة والتواصل.
بعد التجوال في أزقة أمستردام الضيقة والجميلة، عدنا إلى ميدان دام سكوير العامر بالحركة السياحية والمطاعم وبالتحديد إلى متحف مدام توسو. يستعرض المتحف نماذج شمعية تنطق بالحياة لمشاهير السياسة والفن والسينما. اقتربت من تمثالٍ للرئيس الأميريكي السابق باراك أوباما، أحدق به عن قرب، اطمأنيت بعد لحظاتٍ من التحديق إلى أنه ليس الرئيس السابق لأقوى دولةٍ في العالم، والتقطت معه صورة. انتشرنا في أرجاء المعرض نلتقط الصور مع شخصياتنا المحببة.
بعد الفراغ من المتحف، رحنا نتجول عبر جسورٍ وقنواتٍ مائية تعبر تحتها القوارب التي تصدح منها الموسيقى. شاهدنا دراجاتٌ هوائيةٌ عددها أكثر من المشاة والسيارات معاً. بشرٌ من مختلف الألوان يثرثرون بكل لغات الدنيا. المباني الملونة ذاتها تراقبنا كما راقبت قروناً وأجيالاً من البشر قبلنا. واصنا السير حتى انتصف الليل، وعدنا إلى الفندق.
اليوم الثاني في هولندا:
كنت قد قررت الاستفادة من الصالة الرياضية في الفندق، فاستقيظت قبل موعد الفطور وارتديت ملابسي الرياضية ونزلت إلى الطابق السفلي. على عكس المألوف في الأندية الرياضية بالفنادق، كانت هذه الصالة فسيحةً ومتنوعة الأدوات وعامرةً بالمتريضين.
تناولنا الفطور في المطعم الذي يتوسط الفندق، وهو أشبه بساحة ذات جدران زجاجية. ملأت معدتي بالمعجنات الطرية التي دهنتها بالزبدة وعجةٍ بفطر الكمأة، وانطلقنا في مغامرة جديدة.
اقتنينا تذكرة لزيارة منزل آنا فرانك عبر الإنترنت، والذي يعتبر من أهم المعالم السياحية في هولندا.
كانت آنا فرانك طفلةٌ يهوديةٍ تمتلك موهبة التعبير الكتابي، دونت بكلماتٍ جميلةٍ وبسيطةٍ التغييرات التي طرأت على حياتها ومشاهداتها خلال فترة الاحتلال النازي لهولندا. اختبأ أفراد أسرتها في علّية المنزل خلف جدارٍ مزيفٍ أمامه خزانة كتب، وساعدهم خلال فترة اختبائهم موظفان كانا يعملان لدى والدها. اُكتشف المخبأ قبل نهاية الحرب وتوفيت آنا في معسكر اعتقال، ولو أنها عاشت لربما أصبحت صحافيةً قديرة.
بعد أن انتهينا من التجول في أرجاء منزل آنا فرانك، توجهنا إلى عربة نقانق على طرف الشارع، إذ تُروى الحكايات عن مذاق نقانق الشارع في أمستردام، ورواتها محقون.
قدم البائع لكلٍ منا شطيرةً وأشار إلى علب الصلصة، كاتشب وثوم وخردل. ملأنا شطائرنا بكل ذلك وجلسنا على ضفة القناة نشاهد القوارب العابرة ونمتع ناظرينا بجمال هذه المدينة الأخاذ.
عاودنا بعد ذلك المسير في شوارع هذه المدينة الجميلة حتى مررنا ببرج مونتيلبانستورن ذي الرأس المدبب.
يُحكى أن أهمية هذا البرج، الذي بُني في القرن السادس عشر كانت في الأساس عسكرية، حيث أنه بُني بهدف حماية المدينة، و بعد ذلك، أصبح مكاناً لتجمع البحارة. أما اليوم فهو مزارٌ سياحي تُلتقط أمامه صور “السيلفي”، وهو بالضبط ما قمنا به أمام البرج التاريخي.
أنهينا أمسيتنا بالتنزه على جسر ماجيري بروغ المخصص للدراجات الهوائية والمشاة. محاطين بضجيج وثرثرة السياح، بعيدين عن صخب السيارات سرنا على الجسر نشاهد أضواء المباني التاريخية وانعكاسها فوق مياه النهر الرائقة.
اليوم الثالث في هولندا:
بعد الفطور جلسنا مع موظف الكونسييرج في بهو الفندق لنخطط ليومنا. قدم لنا الموظف خريطةً مجانيةً لأمستردام، وحدد بالقلم مواقع المعالم السياحية.
استأجرنا دراجاتٍ هوائية لنختبر شعور سكان المدينة، حيث مسارات الدراجات الهوائية والإشارات المرورية واضحةٌ وسهلة. حددنا محطات الاستراحة بفناني الشوارع، كنا نتوقف لدى العازفين ونستمع إلى وصلةٍ أو اثنتين، ونضع في القبعة أو الصندوق بعض النقود ونركب دراجاتنا من جديد.
أوقفنا دراجاتنا وربطناها بالأقفال في موقفٍ مخصصٍ لها قرب شارع جوردان التاريخي، والذي تأسس قبل أربعة قرون. تعد المباني الجميلة المطلة على صفحة الماء الهادئة، في هذا الشارع تحفاً معمارية، وتتنوع فيه المحلات التجارية التي تبيع التذكارات السياحية. تجولنا بينها سيراً مقتنين ما يزين بيوتنا ويذكرنا بهذه الرحلة الجميلة.
ركبنا قارب الجولات المائية، الذي جال بنا عبر قنوات المدينة مروراً بأهم المعالم السياحية التي يمكن مشاهدتها من الماء. ومع حلول موعد الغداء قُدمت لنا البيتزا.
خصصنا الجزء المتبقي من اليوم لشطب أطباق محددة من على قائمة الأمنيات. توجهنا إلى متجر حلويات وطلبنا فطيرتي وافل ساخنتين، إحداهما بشوكولا النوتيلا وقطع الفراولة الطازجة، والأخرى بالسكر الناعم وبوظة الفانيلا. اختفت الفطيرتان في ثوان ولم نخرج بفائز. يُقال أن أصل الوافل من بلجيكا المجاورة، لكن التلميذ لطالما تغلب على أستاذه.
أكملنا مسيرتنا إلى متجر أجبان يقدم تجربة تذوق أشهر الأجبان الهولندية، والتي يحمل بعضها أسماءً نعرفها، مثل غودا وإدام. لكن مذاقها في أمستردام ألذ بمراحل.
ختاماً كان لابد من عشاءٍ يحمل توقيع البلد المُضيف في مقهىً تقليدي. طلبنا طبق الكروكيت، وهو عبارة عن لفافةٌ مقليةٌ من لحم العجل المفروم، تشبه الكبة، وتقدم على شريحة خبز. شرحت لنا النادلة كيفية تناولها، فهرست اللفافة بالشوكة فوق الخبزة، ودهنت سطحها بالخردل. “خياراتٌ محدودة لذيذة خيرٌ من تنوعٍ لا طعم له” فكرت وأنا أربت على بطني السعيد.
خرجنا من الفندق نجر حقائبنا وحزننا على مغادرة مدينة السعادة. استقلينا الترام إلى محطة القطار المركزية، ومنها بالقطار إلى المطار.
شاهدنا آخر العجائب في المطار قبل اجتياز الحدود والخروج رسمياً من البلد، وهو في عُرف المطارات، مكتب الجوازات. فالمعتاد لدينا، أن يجلس الموظفٌ خلف مكتب، ليزن حقيبتك على الحزام، ثم يضع عليها علامةً تحمل اسمك ورقم الرحلة، ويرسلها إلى بطن الطائرة. هنا غاب الموظف البشري وحل مكانه جهازاً أبيضاً مصقولاً يقوم بنفس المهمات
ميزانية رحلة السياحة للشخص في هولندا:
- تذكرة السفر من وإلى دبي 2000 درهم
- الإقامة في الفندق 4000 درهم
- تذكرة المواصلات العامة في أمستردام لمدة 72 ساعة 100 درهم
- تذكرة متحف فان غوخ 80 درهم
- الغداء في شارع أغوستو 200 درهم
- تذكرة التاريخ اليهودي 60 درهم
- استئجار دراجة هوائية لمدة يوم 40 درهم
- رحلة القارب مع غداء 170 درهم
- متوسط سعر وجبات الغداء والعشاء 60 درهماً للوجبة
- إجمالي سعر الرحلة التقريبي 7010 درهم
نصائح لزوار أمستردام
- اشتر من المطار تذكرة المواصلات العامة لمدة 72 ساعة
- انتبه إلى مسارات الدراجات الهوائية وتجنب السير فيها
- ننصح بالإبتعاد عن تناول الطعام في شارع أغوستو فالطعام والخدمة فيه دون المستوى
- اقتن تذاكر المتاحف الرسمية عبر الإنترنت، فذلك يجنبك الوقوف الطويل في طوابير التذاكر
- بالإضافة إلى المعطف الشتوي، خذ معك معطف المطر المصنوع من النايلون. فجو أمستردام متقلب. وهذا المعطف رخيص الثمن ويأخذ مساحةً محدودةً في الحقيبة
قد يعجبك:
تقرأون